المنارة الأولي في صناعة الذات |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه المقاله بعنوان " المنارة الأولي في صناعة الذات " وهي المقالة الأولي من أصل عشر مقالات في سلسلة بعنوان " 10 منارات في صناعة الذات " وهي من تأليف فضيلة الشيخ الدكتور / عبيد بن سالم العمري إمام وخطيب جامع الميقات بالمدينة المنورة وعضو هيئة التدريس بجامعة طيبة .
المنارة الأولي
(بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان)
فما أشقي الإنسان بلا إيمان
الإيمان هو الجنة التي من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة , قال تعالي : ( من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثي وهو مؤمنُ فلنحيينه حياةً طيبةً ) النحل : 97
ومن تأمل سير الصالحين وخاصة الصحابة رضي الله عنهم علم قدر ما لاقوا في سبيل إيمانهم , وكم هي تلك الأخبار التي تؤكد حقيقة ذلك واقرأ في سير أمثال مصعب بن عمير والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبدالرحمن بن عوف وبلال وخباب وأسرة آل ياسر وغيرهم ممن لاقي صنوف العذاب , ولكنهم شمخوا وصمدوا صمود الجبل الأشم في سبيل عقيدتهم وإيمانهم .
ثم قارن بين أحوال شبابنا اليوم من أجل فاجرة تري البعض يبيع دينه , ومن أجل كأس خمر يتنكر للإسلام , ومن أجل تحقيق شهوة ساعة , يبيع جنة عرضها السموات والأرض .
كيف لو مسوا بعذاب ؟ كيف لو حصل لهم ما حصل للسابقين ؟ ماذا سوف يكون حالهم ؟
أروع ما في الإيمان
الدنيا بكل بهارجها ولذاتها ومفاتنها ليس فيها ألذ من معرفة الله ومحبته , والإيمان به , فمحبة الله والإيمان به ومعرفته وطاعته وعبادته , هي قرة العيون , ولذة الأرواح , وبهجة القلوب , ونعيم الدنيا وسرورها وحبور الأخرة ونورها ...
والجنة علي قدر ما فيها من النعم ليس فيها ألذ من رؤية الله عزوجل ومشاهدته .
والله ما طابت الدنيا إلا بذكره , ولا طابت الأخرة إلا بعفوه , ولا طابت الجنة إلا برؤيته .
فمن وجد الله ماذا فقد ؟ ! ومن فقد الله ماذا وجد ..؟؟
وخذ هذا المشهد التاريخي , يؤسر خبيب بن عدي , ويوقن بالموت , ويحاصر من جميع الجهات , ثم يفطن له وفي يده قطف من عنب , رزقه الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب , فيدلف إليه طفل من أعدائه , والموس بيده , فيقول لأمه أتخافي أن أمسه بسوء ؟ قالت نعم , قال ما كنت لأفعل ذلك , ثم يصعد علي خشبته التي صلب عليها , وينظر إلي الجموع , وقد تحشدت . فينادي " اللهم أحصهم عدداً , وأقتلهم بدداً , ولا تبق منهم أحداً , ثم ينشد أبياتاً ملؤها اليقين
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً *** علي أي جنب كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشــأ *** يبارك علي أوصال شلو ممــــــزع
إبراهيم بن أدهم ابن أحد أغنياء زمانه , وأعيان دهره وأوانه , كان في بستان جمع فيه ألوانا من المخلفات الشرعية , خمر ونساء ورفقة سوء في صخب لا ينتهي . فبينما هو علي حاله إذا به يسمع آية من كتاب الله ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فيطرح سؤالا , واجابة هذا السؤال تصنع منه رجلاً لا كالرجال.
( يا إبراهيم ألهذا خلقت ؟ يا إبراهيم ألهذا خلقت ؟؟ )
فقام من ساعته وكسر أدوات اللهو , وسكب الخمر , وفارق رفقاء السوء ولزم محراب الإيمان حتي أصبح من عباد زمانه , ومن زهاد دهره وأوانه , حتي أفضي به الأمر إلي أنه كان لا يجد بعد لذائذ الطعام والشراب إلا كسرة خبز يخرج بها إلي دجلة , فيغمسها بالماء ثم يأكلها , وهو في ذاك الحال يسمعنا كلمات تثير العجب فيقول :
والله .. والله .. والله إننا لفي لذة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها ولو بالسيوف .
والسر الذي جعل حياته علي شدتها , حياة سعادة , إنها لما كانت مع الله وبالله وفي الله وجد فيها لذة ليس بعدها لذة ..
كيف يكون الإيمان ؟
الإيمان أن تؤمن بالله عزوجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
إيماناً يسير في خلاياك ويستقر في سويداء قلبك , ومن خلاله تري الدنيا من حولك , وذاك هو الإيمان , هو الذي جعل مصعب بن عمير رضي الله عنه يقف في مفترق الطرق , أمه وما عندها من الأموال وحياة البذخ والترف , والإيمان , فلا يقدم علي الإيمان أحداً ويركل الدنيا بقدمه ويشمخ عنها , فيموت يوم يموت , وليس له كفن يواري به إلا شملة إذا غطوا رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا رجليه بدا رأسه . فيا لله العجب !!!
أهذا هو الشاب الذي كان أعطر شاب في مكة ؟ والذي غذي بالنعيم , حتي كان مثلاً يضرب في الترف والدلال والمال نعم إن الإيمان قد تحول بمصعب إلي شخصية أخري تؤثر الباقية علي الفانية وتؤثر الله علي ما سواه ....!! فيا لله العجب .
إننا أمام هذه النمازج لا نملك إلا أن نقول واحسرتاه علي أنفسنا !! واحسرتاه علي لحظة قضيناها من دون الله !! واحسرتاه علي ثانية انقضت في غير ما يحب الله عزوجل ويرضيه !! ..
ومن تكن العلياء همة نفسه *** فكل الذي يلقاه فيها محبب
شاب يقهر أمة
يأسر الروم جماعة من المسلمين , وفيهم عبدالله بن حذافة السهمي , فانطلق المبشر إلي هرقل وقال له : أسرنا جماعة وفيهم أحد أصحاب محمد , وهنا أمر هرقل أن يمثل ذلك الأسير بين يديه .
أرأيتم اساري الحروب ؟ كيف يكسو الذل وجوههم , والرعب عيونهم ؟ والهلع باد علي صورهم ومحياهم .
عبدالله بن حذافة كان في الأسر أعز منه يوم كان طليقاً .
مثل بين يدي هرقل , علي بلاط الملك , والدنيا بين يديه , أسورة من ذهب , وستائر من حرير والوصائف في كل مكان , والدنيا تطل بأنفها في كل زاوية , وكأنه لا يري شيئاً .
والسر أنه تعلقت نفسه بالأخرة , فلا يري الدنيا إلا أقل من جناح ذبابة . هذا هو الميزان عند عبدالله بن حذافة , فلما رأي هرقل شماخة أنفه وعزة نفسه سأله من أنت ؟ قال : أنا عبدالله بن حذافة السهمي , قال : إني عارض عليك أمراً , فشاور نفسك . قال : وما هو ؟ قال : تنصر وأعطيك نصف ملكي .
قال : والله لو أعطيتني ملكك وملك أهل الأرض جميعاً علي أن أدع ديني طرفة عين ما تركته .
الله أكبر , الله أكبر , صناع الحياة . قمم الجبال . لا يمكن أن يتنازل , لأنه بيع بخس , حاول ولكن باءت المحاولات بالفشل فقال : أسجنوه. ظن أن السجن يرد عبدالله بن حذافة ولكن لا فائدة , فقال : أجيعوه ثلاثة أيام , ثم قال : أرسلوا عليه خنزيراً وخمراً , فدخلوا عليه فقالوا : ياعبدالله هذا خمر وخنزير فكل واشرب فقال : أما إن ديني قد أباح لي أن أنال من هذا ما يبقي علي أودي ولكن والله لا أشمتكم بأهل الإسلام . سبحان الله العظيم , أي رجل هذا الرجل ... فقال هرقل : علي بفاتنة فجاءوا بأجمل امرأة , فقال لها : إذا لمسك فلك ألف دينار . قالت : والله لأجعلنه يفعل . دخلت الفاجرة , الباهرة في جمالها علي عبدالله بن حذافة وغلقت الأبواب , فلا عين تري ولا أذن تسمع , إلا الله جل وعلا , وبدأت في عرض مثير وبدأت تدغدغ المشاعر , ولكن أني لامرأة أن تهزم إيماناً كالجبال , بدأت تعرض بضاعتها في سوق الجسد العاري تحاول أن تظفر من عبدالله بن حذافة ولو بلمسة , ولكن عف وكف واستعف , (ومن يستعفف يعفه الله ) , وقبله صرخ يوسف عليه السلام ( معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون )
فخرجت العاهرة كالحة مقطبة الجبين , وقالت : أدخلتموني علي حجر , والله لو أدخلتموني علي بشر لتحرك .
نعم خرجت كما دخلت لم تنل من رجل الإيمان شيئاً , فقال هرقل : ضعوا الزيت علي النار , فلما حمي الزيت قال : ألقوا فيه ثلاثة من أسري المسلمين . فلما وقعوا في الزيت إذا بعظامهم تقعقع في ظاهر الزيت , ومنظر تتقزز منه الأنفس وتوجل منه القلوب , قال ياعبدالله بن حذافة ترجع عن دينك أو ترمي , فأبي عبدالله بن حذافة.
صمود في وجه الإعصار وثبات في وجه التيار , فأخذوه , فلما أحس بوهج الزيت وحرارته بكي , فقال هرقل : ردوه , فلما مثل بين يديه قال : ما الذي أبكاك ؟ قال : هي نفس واحدة تلقونها في الزيت فتخرج . قال : وما الذي تريد ؟ قال : أريد أن يكون ل من الأنفس بعدد شعر جسدي . قال : ولم ؟ قال : كلما خرجت نفس أحتسبها عند الله ( أه وألف أه ) ونحن نسمع هذه الكليمات من عبدالله بن حذافة , ونري حال كثير من شبابنا اليوم . فيا لله العجب . فقال هرقل : أتقبل رأسي وأفك أسرك ؟ أفلس المسكين .. , قال : وجميع أسري المسلمين , هو لا يفكر في ذاته يفكر في أسري المسلمين .
قال : نعم , فقام عبدالله وقبل رأس هرقل وفك جميع أسري المسلمين , فرح الناس وحزن هو , وانطلق علي دابته ميمماً شطره إلي المدينة حيث عمر ودخل عليه وقال : أتعرفني ؟ أنا عبدالله بن حذافة السهمي . قال : وما الذي وراءك يا بن حذافة ؟ قال : يا أمير المؤمنين قبلت رأس كافر . قال : ويحك ! ماخبرك ؟ فأخبره , فقام عمر الفاروق وقبل رأس عبدالله بن حذافة وقال : حق علي كل مسلم سمع خبره أن يقبل رأس عبدالله بن حذافة .
هؤلاء هم صناع الحياة , حقيقةً هؤلاء هم القمم الذين نسجوا تاريخاً ليس من ذهب ولكن من أحرف من نور .
لا تعرضن لذكرهم مع ذكرنا *** ليس الصحيح إذا مشي كالمقعد